هل انحرف نقاش الهوية بفرنسا عن مساره؟

ما زال المتتبعون للشأن الفرنسي ينتظرون النتائج التي سيسفر عنها النقاش الواسع الذي انطلق منذ نهاية العام الماضي حول "الهوية الوطنية" بفرنسا. النقاش بدأ بسيطا حول مسألتين أسياسيتين هما "ماذا يعني لك أن تكون فرنسيا اليوم؟"، و"كيف ترى العلاقة بين الهجرة وبين الهوية الفرنسية؟"، لكن يبدو أنه انحرف عن مساره، عند البعض، متخذا أبعادا أخرى تركزت بشكل أساسي حول هوية المسلمين بفرنسا وقضايا النقاب والهجرة غير الشرعية وغيرها.

كانت أقوى مبادرة اتخذت في إطار نقاش الهوية الذي تشهده فرنسا حاليا هو الاقتراح الذي تقدمت به لجنة برلمانية حول فرض حظر على ارتداء البرقع والنقاب في الأماكن العامة، ومن المتوقع أن تنشر هذه اللجنة النتائج التي توصلت إليها في 26 أو 27 من يناير الجاري.

هل انحرف نقاش الهوية بفرنسا عن مساره؟

في أحدث تصريح لرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يوم الأربعاء الماضي (13 يناير 2010) قال فيه، بعد أن صرح بأن النقاب غير مرحب به في فرنسا، إنه "يفضل أخذ تصويت البرلمان على اقتراح يفرض حظرا على ارتداء البرقع والنقاب في فرنسا والذي ستتبعه خطوات قانونية بعد الانتخابات الإقليمية في 2010".

وبالرغم من أن هناك بضع مئات فقط من النساء في فرنسا يرتدين النقاب أو البرقع إلا أن الجدل حول النقاب هيمن لعدة شهور على الجو العام بفرنسا، كما أنه استطاع أن يحدث شقاقا حتى في صفوف حزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية".

وسيطرت معركة البرقع أيضا على أجوار الإعلام الفرنسي، فعلى مدى الأسابيع القليلة الماضية ظهرت نساء شابات متعلمات يرتدين النقاب في الكثير من البرامج الحوارية في فرنسا وفي الصحف وحاولن الدفاع بقوة عن حقهن في ارتداء ما يردن، بالإضافة إلى ان مواقع الانترنت كانت هي أيضا مسرحا لهذا النقاش، لكن سلك منعرجات خطيرة  في بعض الأحيان كما حدث مع كاتبة الدولة للأسرة "نادين مورانو" التي "نصحت" المسلمين الشباب بـ"إيجاد عمل و عدم التكلم بلهجة الفرلان و الامتناع عن وضع القبعة مقلوبة".

هذا المسار الذي اتخذه النقاش الهوياتي بفرنسا، فهمه المسلمون هناك أنه موجه ضدهم، بل إن مجموعة من الصحف العالمية رأت في مثل هذا النقاش مدعاة لتأجيج المد العنصري ضد المسليمن والمساس بمصالحهم كفئات تعايشت سنين طويلة في المجتمعات الغربية.

وأمام تزايد الانتقادات بخصوص التطورات التي يمكن أن تنتج عن انحراف مسار نقاش الهوية بفرنسا،  دافع وزير الهجرة الفرنسي "اريك بيسون"، في آخر تصريحاته، عن المسلمين، معتبرا أن هذا النقاش لا يتمحور حول الهجرة والاسلام" ولا يشكل "متنفسا للعنصرية".

كلام الوزير الفرنسي جاء عندما لوحظ أيضا تزايد الاعتداءات على الأماكن المقدسة للمسلمين، آخرها الأعمال "المعادية للإسلام " التي ارتكبت مؤخرا بستراسبورغ بسبب مشروع المسجد الكبير الذي يدعمه عمدة المدينة، وقد دعا على إثر ذلك المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية  إلى تشكيل وفد برلماني  لتقديم توضيحات بخصوص "ظهور أعمال تعكس التعصب الذي يهدد "العيش المشترك" بفرنسا.

ومما زاد من حدة نقاش الهوية بفرنسا أيضا منع بناء المآذن بسويسرا، وانعرج النقاش مرة أخرى إلى جعل المآذن مسألة متعلقة بالهوية بفرنسا، ولعل أشد تصريح فيه هذا الباب يعود لرئيس بلدية "غوسانفيل" الذي قال : "لقد آن الأوان لنتحرك و إلا فسيلتهموننا"،  أو تصريح حافظ الأختام السابق "باسكال كليمون" الذي قال خلال نقاش: "اليوم الذي سيتساوى فيه عدد المآذن مع عدد الكاتدرائيات في فرنسا فإن فرنسا سوف لن تظل فرنسا".

دعوات إلى وقف النقاش

يرى البعض أن النقاش حول الهوية بفرنسا جاء بمفعول معاكس، وأنه يصب في خدمة اليمين المتطرف الذي بات يتعزز أكثر فأكثر و كذا الجبهة الوطنية التي بدأت تبرز على الساحة الفرنسية  حسب الكثير من الملاحظين. ووجهت شخصيات سياسية و نواب ومنتخبون محليون وجامعيون نداء للمطالبة بالتخلي عن النقاش حول الهوية بالنظر إلى "المنحى الخطير" الذي اتخذه  و الآراء العنصرية التي تم التعبير عنها.

ودعا عشرون باحثا فرنسيا إلى "إلغاء" وزارة الهجرة و الهوية الوطنية لأنها "تشكل خطرا على الديمقراطية" في فرنسا، قائلين إن"إنشاء وزارة مكلفة بالهجرة والهوية الوطنية أدخل في بلدنا خطر العزلة من ناحية الهوية والاقصاء والذي تظهر خطورته كل يوم، وذلك منذ سنتين و نصف"، حسب ما جاء في نداء نشرته الصحف.

ووقعت أكثر من 140 شخصية فرنسية وخصوصا من المثقفين، نهاية دجنبر الماضي عريضة طلبت فيها من الرئيس الفرنسي ساركوزي وضع حد لهذا النقاش الذي أصبح كما قالت مجالا لإطلاق "خطاب عنصري".

و تم تأكيد هذا الرفض من خلال عملية سبر الآراء التي أبرزت أن 29 بالمئة من الفرنسيين يريدون وقف هذا النقاش بينما يرغب 21 بالمئة من الفرنسيين تعليقه فقط.

و بالرغم من كل هذه الانتقادات ما زالت فرنسا متمسكة بهذا النقاش،  وأنه ليس مقيدا بوقت، بل سيتواصل إل غاية نهاية سنة 2010 بينما كان من المقرر أن ينتهي قبل الانتخابات الجهوية المقررة في مارس المقبل.

 

ولا يمانع رأي آخر في استمرار نقاش الهوية، لكن يؤكدون أنه ينبغي أن يفتح نقاشات حقيقية تساهم في تبيث دعائم الهوية الفرنسية والقيم الحضارية المكتسبة، المبنية على الأخوة والتسامح والتعايش والتعددية.