ندوة في كتاب

ضمن سلسلة ندوات ومناظرات، صدر عن منشورات كلية الآداب بالرباط، كتاب "الاتجاهات الكلامية في الغرب الإسلامي" (الطبعة الأولى 2005)، والكتاب عبارة عن تجميع لمداخلات مائدة مستديرة نظمتها الكلية في مراكش بتاريخ 19 ـ 22 فبراير 2004، تحت ذات العنوان، شارك فيها ثلة من الباحثين من خلال تقديم عروض ومناقشات بذهن نقدي منفتح، برأي علي الإدريسي، منسق العمل، فكان تبادل الفائدة ومشاركة جماعية في إغناء الفهم لمضامين علم الكلام بالغرب الإسلامي وأشكاله وخصوصياته.

اجتهدت المائدة المستديرة في الإجابة على مجموعة من الأسئلة اللصيقة بماضي وواقع علم الكلام في الغرب الإسلامي، من قبيل الاستفسار عن الصور التي اتخذها علم الكلام بالغرب الإسلامي، والفترات التي حميت فيها جذوة الجدل الفقهي والعقدي وتلك التي خمدت فيها وعن علاقة علم الكلام بالغرب الإسلامي بمثيله في المشرق الإسلامي. كما أثيرت أسئلة عديدة عن علاقة علم الكلام بالتصوف، وعن دور التوجيه السياسي في الاختيارات المذهبية للمفكرين عامة وللمتكلمين على وجه الخصوص، وعما إذا كان المغاربة قد فضلوا اتجاها كلاميا على حساب اتجاه آخر، وغيرها من الأسئلة ذات صلة بعنوان المادة والمبحث ضيف هذا العرض المقتضب.

 

وقد ختمت جلسات المائدة المستديرة بتقديم خلاصة تؤكد على ضرورة الاعتناء بعلم الكلام مجددا، بصفته أحد دعائم الحوار بين مختلف التيارات الفكرية والتوجهات المذهبية، وأحد ركائز الانفتاح العقلي على قضايا العصر ومكوناته.

 

تضمن الكتاب الذي أنجز بدعم من مؤسسة "كونراد أديناور" الألمانية، مجموعة دارسات وأبحاث تفرعت على أربعة فصول وجاءت تحت العناوين التالية: فصل علم الكلام في الغرب الإسلامي: مكانته وآفاقه، ونقرأ فيه الأبحاث التالية: في الحاجة إلى تاريخ نقدي لعلم الكلام بالمغرب لعبد المجيد الصغير، وتجديد علم الكلام في علم الكلام لعبد الصمد تمورو، وعلم الكلام في الغرب الإسلامي بين الاقتباس والخصوصية لامحمد أيت حمو. أما الفصل الثاني فجاء تحت عنوان: مذاهب ومباحث في علم الكلام في الغرب الإسلامي، متضمنا الدراسات التالية: المناخ الفكري بالأندلس ودور المالكية في تشكيله لسالم يفوت، والاتجاه الكلامي عند الأباضية بالغرب الإسلامي: أبو يعقوب الورجلاني نموذجا لعمار الطالبي، والجدل الفكري في القيروان من خلال كتاب "رياض النفوس" للمالكي لعلي الإدريسي، وأصول علم الكلام أو الحلقات المبتورة من تاريخ الفكر بالمغرب والأندلس لأحمد الطاهري. جاء الفصل الثالث تحت عنوان الفلسفة وعلم الكلام في الغرب الإسلامي، ونطلع فيه على الدراسات التالية: مآل علم الكلام عند ابن حزم والباجي لبناصر البعزاتي، والمتكلمون اليهود في الشرق والغرب الإسلاميين لأحمد شحلان، والتباس الوضع المعرفي لعلم الكلام عند المكلاتي لمحمد المصباحي، واستيعاب اللحظة الرشدية في نقد المكلاتي للفلسفة لأحمد العلمي حمدان. وأخيرا، تضمن الفصل الرابع الذي يحمل عنوان علاقة علم الكلام بالمنطق والمعاملات، مبحث "من أجل منطق لعلم الكلام" لحمو النقاري و"الأساس الكلامي لمؤسسة الحسبة في الغرب الإسلامي" لمحمد أبطوي. يرى علي الإدريسي الذي أشرف على تنسيق هذا العمل أن علم الكلام ليس ترفا من قبيل الكماليات، بل هو ممارسة جدلية من صميم الفاعلية العقلية، تنشئ معارف بقدر ما تشحذ مواقف. ومعلوم أن المعارف، بما فيها المعارف العلمية، حصيلة التبادل والتنافس والخلاف بين الأفكار والتصورات.

 

وليست الندوة المنظمة في هذا الإطار إلا فضاء مناسبا للمناقشة التي تسعى إلى تهذيب المواقف وتصويب التصورات وتنقيح الأحكام.

 

نقتبس من بعض مداخلات المائدة المستديرة، ما جاء في ورقة عبد المجيد الصغير، حيث نقرأ صرخة مدوية بخصوص تأخر طرح هذا الإشكال في الزمن المغربي بحوالي نصف قرن، وهي المدة التي انقضت على استقلال المغرب وعلى إنشاء أول جامعة مغربية. ويبدو، يضيف الصغير، أننا طيلة هذه المدة لم نتخط عتبة "التحسيس" بقيمة الفكر في الغرب الإسلامي وبجدوى البحث فيه كفكر يملك من الخصوصيات ما يجعله يحظى بالأولوية في الأبحاث والدراسات الجامعية، بعد أن عانى ذلك الفكر من التهميش مدة غير يسيرة.

 

جرأة عيد المجيد تتضح أكثر في خاتمة مبحثه القيم، حيث يوجه نقدا صريحا لمدرسي وطلبة شعب "الدراسات الإسلامية" فيما يتعلق بأي مبادرة تصدر عن أصحاب الشعبة، وتروم رد الاعتبار لعلم الكلام، وذلك بسبب ما يصفه بسيطرة توجه حنبلي متطرف على الدرس العقدي هناك، متوهمين ـ والكلام موجه لأهل "الدراسات الإسلامية" في المغرب ـ أن الدرس الكلامي هو بعينه "بيان عقدي" ديني ملزم بالضرورة! في الوقت الذي يجب أن يعتبر فيه الفكر الكلامي جملة، وبمختلف اتجاهاته، اجتهادا فكريا ودرسا منهجيا قبل كل شيء لفهم النص العقدي؛ وليس هو عين العقيدة بالضرورة! وإذا كانت زلة المعتزلة الأوائل في محاولتهم فرض تصورهم للكلام الإلهي والقول بخلق القرآن، فإن زلة خصومهم الحنابلة وأضرابهم من مقلديهم المعاصرين لا تقل عن ذلك خطأ حينما حاولوا فرض "بيانهم القادري" الذي تنوسي هو الآخر، لكونه أراد أن يخلق في الإسلام تقليدا أشبه بالتقاليد الكنسية التي تلزم أتباعها باختيارات "مجاميعها"، وذلك هو الطاغوت العقدي الذي رفضه الإسلام منذ يومه الأول. ونختتم هذا العرض بما اختتم به حمو النقاري عرضه المنطقي، والذي يرى بأن من مظاهر قصور الدرس المعاصر للفكر الكلامي الإسلامي العربي القديم، بل وللفكر الإسلامي العربي الرائج اليوم، "ندرة" الاهتمام" بالمناهج المسلوكة في ما تقلد من الاعتقاد". وهذه ندرة مبررة بكون أغلب دراسي الكلام المعاصرين، بما فيهم من المستشرقين، لم يدركوا فائدة تجشم عناء الاجتهاد لامتلاك "العدة" العلمية التي بدونها لا يستقيم طلب الاهتمام بتدبير "مسائل المنهج" بل ولا يتصور إمكان إنجازه أصلا.