المؤرخ المغربي عبد السلام الشدادي

ستوفر طبعة عبد السلام الشدادي للمرة الأولى نصا كاملا للمقدمة. وإذ تأتي بالروايات المتوفرة في جميع المخطوطات الأصلية، ستسمح هذه الطبعة بتتبع التطور الطويل الذي عرفه الكتاب

شهدت الرباط يوم 13 دجنبر 2005 تقديما للطبعة النقدية الجديدة لمقدمة ابن خلدون التي اشتغل عليها المتخصص في فكر ابن خلدون المؤرخ والفيلسوف المغربي الدكتور عبد السلام الشدادي. وكان الحفل الثقافي المخصص للتقديم بمساهمة فضاء التعبير الفني والثقافي بصندوق الإيداع والتدبير (CDG). وقد شهد هذا الاحتفاء حضور شخصيات ثقافية وعلمية بارزة ووازنة، وفي مقدمتها الباحثة المغربية المتميزة فاطمة المرنيسي التي أعطت لهذا الاحتفاء/الحفل نكهة خاصة بمنهجها الذي يجمع بين الدقة في التساؤل والطرافة في التواصل.

 

ينطلق العمل العلمي الذي قام به الشدادي من أن مقدمة ابن خلدون تعتبر عملا فريدا من نوعه في حقل الثقافة العربية الإسلامية، والثقافة الكونية. غير أن هذا العمل لم يحظ إلى يومنا هذا بتحقيق نقدي، الشيء الذي يقف حجر عثرة أمام كل محاولة للقيام ببحث جدي بشأنه. فالتحقيقان الأولان تاريخيا، أي تحقيق نصر الدين الهوريني الذي نشر ببولاق قرب القاهرة سنة 1857، وتحقيق مارك كوترمير الذي نشر بباريس بعد سنة، يوضح الشدادي، لم يرتكزا إلا على عدد محدود من المخطوطات التي كانت متوفرة آنذاك. وجميع الطبعات التي كانت تروج من بعد ذلك لم تكون سوى نسخ من هاتين الطبعتين الأوليين.

 

يستند التحقيق الجديد الذي يقدمه عبد السلام الشدادي إلى جميع المخطوطات الأصلية المفهرسة (40 مخطوطا)، وبالخصوص مخطوطتي المتحف البريطاني "وليدن" اللتين تمثلان الرواية الأصلية للمقدمة. ومخطوطتي دماد إبراهيم 863 وياني جامع 888 بإستانبول اللتين تمثلان الرواية المتوسطة، وأخيرا مخطوطتي عاطف أفندي 1936 وغريب باشا 978 بإستانبول كذلك اللتين تمثلان الرواية المتأخرة. وبفضل هذه المجموعة من المخطوطات، بالإضافة إلى ست مخطوطات أخرى من الرباط، وباريس، وبروس، وإستانبول، ومونيخ، ستوفر طبعة عبد السلام الشدادي للمرة الأولى نصا كاملا للمقدمة. وإذ تأتي بالروايات المتوفرة في جميع المخطوطات الأصلية، ستسمح هذه الطبعة بتتبع التطور الطويل الذي عرفه الكتاب. وبالفعل، تم تحرير المقدمة في مدة تقرب من ثلاثين سنة في ثلاث روايات: رواية أولية، ورواية متوسطة، ورواية متأخرة. ولهذا السبب يقدم عبد السلام الشدادي تحقيقه في صورتين: الأولى: طبعة عمومية في ثلاثة أجزاء، موجهة للعموم، تقدم النص النهائي الكامل. الثانية: طبعة خاصة في خمسة أجزاء تقدم بالإضافة إلى النص الكامل النهائي، نص الرواية الأولية للكتاب. وهي موجهة بالخصوص إلى الباحثين، وخزائن الكتب، ومراكز البحث، والمعاهد، والجامعات. وفي الطبعتين سيزود النص ب: تقديم عام للمقدمة، تقديم حول المخطوطات المستعملة، تعليقات وهوامش توضح المفاهيم والوقائع التاريخية والثقافية، معجم للأسماء سيجد فيه القارئ معلومات مفصلة عن الأشخاص والأماكن والمؤلفات المذكورة من طرف ابن خلدون، بيبلوغرافيا لأعمال ابن خلدون وأهم الأبحاث والدراسات المؤلفة حوله، رسم المؤلف (دائرة سياسية، خريطة العالم، جدول الزيرج)، نسخ لبعض الصفحات من أهم المخطوطات. وهذا الكتاب الجديد طبعه عبد السلام الشدادي في دار خلقها خصيصا لهذا العمل، واسمها "بيت الفنون والعلوم والآداب"، وقد أنشئ هذا البيت من أجل إعطاء نفس جديد للتربية والثقافة بالمغرب، والسلسلة التي ستقدمها هذه الدار سوف تهم المظاهر المختلفة للثقافة المغربية، والعربية والكونية. وبنشر تحقيق المقدمة يدشن بيت الفنون والعلوم والآداب إحدى سلسلاته الأولى، التي ستخصص لنشر الأعمال الكاملة للمؤرخ المغاربي. وفي سؤال تقدمت به "مدارك" للأستاذ عبد السلام الشدادي حول جدوائية إحياء فكر ابن خلدون في الوقت الراهن، فأجاب المؤرخ المغربي قائلا: إن ابن خلدون له أهمية كبيرة لأنه من المفكرين الذين قدموا نظرة شاملة حول الثقافة الإسلامية بجميع جوانبها والتاريخ الإسلامي بجميع جوانبه. وأضاف: لا نجد مثل هذا العمل التركيبي إلا عند ابن خلدون ولو أنه عاش في القرن الرابع عشر. ومن جهة أخرى، من الناحية التحليلية للمجتمع الإسلامي والثقافة الإسلامية نجد لديه عناصر وأفكار ونماذج لا زالت إلى الآن تتمتع بجدوى كبيرة. وهذا ما عناه الشدادي أثناء تقديمه لعمله بقوله: إن كتاب ابن خلدون يقدم ما لا يقدمه أي كتاب آخر وهو فهم الاشتغال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي للمجتمع المغربي في القرون الوسطى والمجتمعات الإسلامية قبل هذه القرون. وإن الكثير من الظواهر والمشاكل التي عاشها ابن خلدون وعمل على فهمها لا تزال قائمة إلى حد الآن. ودائما أثناء تقديمه لهذا العمل التحقيقي النقدي ل"المقدمة" بين الشدادي أن أهمية ابن خلدون تكمن، أيضا وبشكل أساسي، في ثلاثة جوانب: الجانب المعرفي والجانب المنهجي والجانب العلمي. مشيرا إلى أن تاريخ المغرب العربي والتاريخ الإسلامي بصفة عامة لم يظهر إلى الوجود بشيء من العقلنة والوضوح إلا عندما اطلع الغرب على ابن خلدون. وتحدث الشدادي أيضا عن حداثة ابن خلدون، حيث أوضح أنه إذا كانت الفردانية من أبرز سمات الحداثة فإن ابن خلدون قد تمثلها أحسن تمثل. وقد استعرض المؤرخ والفيلسوف المغربي جملة من مواقف ابن خلدون في حياته التي تدل على الفردانية في التفكير والتصرفات والمعاملات. مشيرا إلى أن ما عاشه ابن خلدون من معانات بفقده لوالديه وأساتذته قد جعله يحول كل هذا إلى بناء تاريخي، فتحدث في سيرته عن عائلته كمؤرخ. وبعد استعراض تلك المواقف قال الشدادي إن المثير في ابن خلدون هو قدرته على اتخاذ القرارات الفردية. وعلى مستوى الفكر أوضح المؤرخ المغربي أن ابن خلدون هو في نفس الوقت محافظ ومجدد: محافظ لأنه يعتبر النظام الإسلامي أحسن نظام في فترته، وبالتالي ينبغي الحفاظ عليه. وهو مجدد لأنه عندما يريد أن يفهم النظام الاجتماعي والسياسي لا يجد إجابات مقنعة، وبالتالي يعيد التفكير في مثل هذه الإشكالات بطريقته الخاصة. فأنتج رؤيته الاجتماعية التي لا تزال صالحة في كثير من النقاط الأنثروبولوجية والإنسانية بشكل عام. وأشار الشدادي إلى أن عمله الجديد نسخ الأعمال الأخرى التي سبقته. خاصة وأن عمله العلمي استطاع أن يصل إلى مخطوطات لم تتمكن الأعمال السابقة من الوصول إليها.