مظاهرات شعبية في تونس على خلفية بث فيلم يمسّ بالذات الإلهية

  • طباعة
أثار فيلم كرتوني يتعدى على الذات الإلهية وبثته قناة تونسية خاصة ردود أفعال مختلفة. فنددت أحزاب ومنظمات بما قامت به قناة نسمة، ورأت في ذلك إثارة لمشاعر الشعب التونسي المسلم. ردود الأفعال الشعبية تمثلت في مظاهرات سلمية في مختلف أنحاء الجمهورية، فيما اعتذر مدير القناة بعد ضغوطات كبيرة.

بثت قناة نسمة التونسية الخاصة مساء الجمعة الماضي شريطًا كرتونيًا بعنوان "PERSEPOLIS" أو "بلاد فارس"، وهو فيلم فرنسي إيراني لمرجان ساترابي وفانسان بارونو، أخرجته الإيرانية مرجان ساترابي، وكتبت قصته ورسمت صوره المتحركة، وكان حصل على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان الدولي 2007.

الفيلم يحكي قصة مرجان، ذات الثماني سنوات، التي تعيش في طهران عام 1978، مدللة مع والديها، وتتابع باهتمام الأحداث التي أدت إلى اندلاع الثورة الإيرانية، والتي أدت بدورها إلى انهيار نظام الشاه. ومع نجاح الثورة الإيرانية بدأت تتابع أزياء وسلوك حراس الثورة.. مرجان التي بدأت تلبس الخمار، وبدأت تحلم بأن تصبح ثورية.. وبعد ذلك تبدأ الحرب ضد العراق بمآسيها وكوارثها، ويبدأ القمع الداخلي.

يثير مرجان التي تجسدت أمامها الذات الإلهية فخاطبتها بوقاحة ونهرتها "إغرب عن وجهي لا أريد أن أراك". هذا الفيلم الكرتوني أثار حفيظة الشعب التونسي المسلم، الذي رأى في هذا الفيلم تحديًا وتجاوزًا للحدود المسموح بها، فالمعتقدات يعتبرها المسلمون "خطًا أحمر"، ولا يمكن بالتالي أن يرضوا بمثل هذا الفيلم الكرتوني لمرجان ساترابي، و"لا الله لا سيدي" لنادي الفاني، وما جاء على لسان د. محمد الطالبي من إساءة إلى عائشة زوجة رسول الله.

هذا الفيلم الكرتوني (صور متحركة) أثار ردود أفعال مختلفة.. أحزاب ومنظمات ندّدت بما قامت به قناة نسمة، واعتبرت في ذلك إثارة لمشاعر الشعب التونسي المسلم. أحزاب أخرى ندّدت بهذا وذاك .. وغيرها رفضت مثل هذه الحركات، التي اعتبرتها "استفزازية". ردود الأفعال الشعبية تمثلت في مظاهرات سلمية في مختلف جهات الجمهورية تنديدًا بما أقدمت عليه قناة نسمة.

لم تقف ردود الأفعال عند حدّ التظاهر، فقد قررت النيابة العمومية في تونس فتح بحث جزائي حول بثّ قناة "نسمة تي في" التلفزيونية الفيلم الإيراني "بلاد فارس". الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية هشام المؤدب قال "إن تونس بلد مسلم، وبقدر ما نسعى إلى الديمقراطية وتطبيق حقوق الإنسان لا يمكن أن تكون تونس على شاكلة الدانمارك مثلاً، وبالتالي لا بد من احترام مشاعر التونسيين، وخاصة ما يتعلق بالمعتقدات وعناصر الأمن، فهم من المجتمع التونسي".

المدب أضاف "ما حصل لا يسرّ، لأننا نحترم من يطالب أو يعبّر سلمًيا، وهذا من حقّه، ولكن الذي حصل كانت له أبعاد أخرى خطرة، حيث وجدنا أفرادًا آخرين لا علاقة لهم بموضوع قناة نسمة، وهم من المنحرفين، وجدوا الفرصة مواتية للتحرك، بينما المجموعة الأولى تحركت من أجل الوصول أمام المقر الإداري لقناة نسمة من أجل الإحتجاج، وربما لنوايا أخرى، وتم منعهم من ذلك، إلى جانب القبض على عدد منهم للتحرّي معهم، وقد تم الإحتفاظ بسبعة منهم لمخالفة قانون الطوارئ".

وزارة الشؤون الدينية التونسية من ناحيتها شددت في بلاغ أصدرته على "نبذ العنف بمختلف أشكاله المعنوية والمادية التزامًا بأخلاقيات الدين الإسلامي الحنيف، التي تكرس مبادئ الوسطية والاعتدال والحوار والتسامح واحترام ثقافة الاختلاف والتوافق، وذلك لحماية تونس من كل الانحرافات والمخاطر ولتحقيق مبادىء ثورة 14 يناير 2011".
ودعت الوزارة كل وسائل الإعلام الحكومية والخاصة إلى "احترام العقائد والمقدسات الدينية والإلتزام بمبادئ السلم الاجتماعية لتيسير عملية الانتقال الديمقراطي في كنف الحرية المسؤولية". المدير العام لقناة نسمة نبيل القروي، وفي تصريح صحافي تناقلته مختلف المواقع العربية والدولية، أشار إلى أنّ مجموعة من ثلاثمائة سلفي حاولوا إحراق قناة نسمة، ولكن رجال الأمن منعوهم من ذلك على خلفية بث الفيلم الكرتوني "بيرسيبوليس "القروي.

وأضاف أنّ المحسوبين على التيار السلفي هم الذين هاجموا القناة، التي تلقت تهديدات بالحرق، بينما كان ينبغي أن يكون احتجاجهم سلميًا.

مصدر من قناة نسمة قال يوم أول أمس لـ" إيلاف": "إنّ لقناة نسمة خطًا تحريريًا واضحًا، وهي لن تحيد عنه، وهو يتمثل في الإيمان بحرية الإعلام من جهة، ولكن مع حرية المشاهد في التنقل واختيار القناة التي تروقه برامجها".

وأضاف مصدر "إيلاف": "نحن نشجّع الإبداع، ونعمل على ابراز عمل ابداعي، يحصل على جائزة عالمية، ولكن في كل مرة نجد صدّى، وفي هذه المرة تطور الأمر ليصبح خطرًا، إذ فيه تهديد بحرق القناة".

الأمين العام لحركة النهضة حمادي الجبالي تناول موضوع بث قناة نسمة لفيلم "بلاد فارس" وما خلفه من استياء وردود أفعال مختلفة، مؤكدًا في بيانه على "صدمة الحركة وإدانتها الإعتداء على عقائد الناس ومقدساتهم والتمييز بين حق التعبير والتفكير والإبداع، وهي حقوق ناضلت وتناضل الحركة من أجل ترسيخها وبين التطاول على العقائد والمقدّسات والتنبيه إلى أنّ استفزاز الناس أو إثارة قضايا جانبية من شأنه أن يهدّد السلم الأهلي ووحدة الشعب وتجانسه التاريخي، كما يهدّد المسار السياسي الذي تنتظره كلّ الفئات لتحقيق أهداف الثورة".

كما اعتبرت الحركة ما حصل من قناة نسمة "خرقًا للقانون الانتخابي بالدعوة إلى التباغض على أساس ديني، وبالإشهار لبعض الأطراف المرشحة على حساب البعض الآخر، وتدعو الحكومة المؤقتة والهيئة العليا المستقلّة للانتخابات إلى تطبيق القانون لحماية سلامة المسار السياسي، وتطلب من كلّ الجماهير اليقظة والتوجّه نحو الموعد الانتخابي، وتجنّب السقوط في الفخاخ التي يرمي أصحابها من ورائها إلى إجهاض الثورة وإدخال البلاد في المجهول".

ناشطون تونسيون على مواقع التواصل الإجتماعي "فايسبوك" و"تويتر" اعتبروا أنّ بث هذا الفيلم في مثل هذا الوقت تحديدًا يعتبر استفزازًا لمشاعر التونسيين، وهو يهدف إلى التخويف من الحركات الإسلامية، وطالبوا في صفحات فايسبوك بإغلاق القناة. ردود فعل غاضبة من كل جهة تجاه بث هذا الفيلم الذي صوّر الذات الإلهية، ومظاهرات تواصلت في العديد من الجهات حتى اليوم، وذلك حتى بعد تراجع المدير العام لقناة نسمة الذي اعتذر للشعب التونسي.

اعتذار نبيل القروي مدير قناة نسمة جاء بعد الضغوطات الكبيرة من كل جهة توّجت بقرار النيابة العمومية في تونس فتح بحث جزائي حول بث قناة "نسمة تي في" التلفزية الفيلم الإيراني "بلاد فارس". نبيل القروي أوضح لوكالة تونس افريقيا للأنباء "أن المسؤول عن خلية المشاهدة لم ينوه في تقريره عن الفيلم انه يتضمن مشهدًا فيه تجسيد للذات الإلهية، الشيء الذي لا أسمح به تمامًا باعتباري مسلمًا يحترم مقدساته الدينية، ولا أسمح لنفسي بمشاهدة لقطة مماثلة مع عائلتي".

وقال القروي: "أعتذر للشعب التونسي عن تمرير مشهد تجسيد الذات الإلهية في الفيلم الكرتوني الفرنسي الإيراني "برسيبوليس" على قناة نسمة، وأعتبر ذلك غلطة لن تتكرر".
عضو الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والإتصال هشام السنوسي تحدث لـ"إيلاف" مبينًا رفض الهيئة وإدانتها للعنف: "من حيث المبدأ كل ظاهرة عنف هي مرفوضة، وليس ثمة الآن أي مبرر للتلويح أو للضلوع في عملية العنف، باعتبار أن هناك حريات فعلية، صحيح أنها لم تؤطر بعد، ولكن يجب أن ندعمها، فهذه الحريات هي أساسًا للإبتعاد عن العنف كوسيلة للتخاطب وعقلنة النقاش. ونحن في الهيئة نرفض رفضًا تامًا، وندين ما تعرضت له قناة نسمة وما تعرض له صحافييوها".

من جهته ندّد حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات بانتهاج العنف سبيلاً، وأكّد في بيانه "خطورة مثل هذه الممارسات الغريبة على المجتمع التونسي المتمسك دومًا بالاعتدال والتسامح".

الصحافي هشام السنوسي أشار إلى ضرورة احترام حرية التعبير قائلاً: "أما في ما يتعلق بحرية التعبير أو الإبداع بشكل عام، فهو يؤسس لأخلاق جديدة أو بديلة للأخلاق السائدة، وبالتالي هو موضوع إشكالي من الأساس، ويجب أن نقبل به، وأذكر من ذاكرتهم قصيرة أنه في فترة من الفترات لما ضيق نظام بن علي على مختلف أطياف المجتمع، سواء كانت مدنية أو سياسية، فإن المبدعين التونسيين هم من وقف لهذا النظام، ويكفي هنا أن أذكر بعض الأسماء مقل جليلة بكار والفاضل الجعايبي، أضف إلى ذلك العديد من الموسيقيين، على غرار محمد القرفي والقصاصين، والمفكرين مثل هشام جعيط إلى غير ذلك.

إذن نترك لهؤلاء حرية التعبير وحرية التصور للمجتمع بطريقة مخالفة لتصوراتنا نحن كمواطنين عاديين". الإتحاد الوطني الحرّ من جهته ندّد باستعمال العنف، الذي اعتبره "قاعدة لبعض التيارات والاحزاب السياسية ذات المرجعية الدينية لترهيب الناس". مناديًا القوى الديمقراطية والتقدمية إلى "الحيلولة دون نجاح التيارات الظلامية في فرض وصايتها على المجتمع التونسي".

من ناحيته ندّد حزب المجد "بأيّ مساس بالمقدسات وبوجدان التونسيين ومشاعرهم الدينية والروحية"، وهو "يدعو الجميع إلى التهدئة والتعقل، سيما في مثل هذه الفترة الحساسة من تاريخ بلادنا، ونحن مقبلون على موعد انتخابي مصيري، وعلى درب ترسيخ الوحدة الوطنية بعيدا عن كل أشكال الاستفزاز والفرقة والتطاحن".

وأدان حزب المجد "كل أشكال العنف مهما كانت جهته، ومهما كانت طبيعته". كما دعا إلى "التعقل ونبذ العنف وضبط النفس لتفويت الفرصة على المتربصين بالثورة". وختم هشام السنوسي بكشفه عن خفايا المسألة قائلا: "المسألة الأخرى المهمة، والتي يجب الإشارة إليها حتى لا ندخل في قضايا هامشية مثلما دخلنا يومًا في قضايا مثل اللائكية وغيرها، تتمثل في محطة 23 أكتوبر، التي يجب أن نقرّ اليوم أنّ هناك من لا يريد بلوغها، خاصة وأنّ عمليتي المحاسبة والمساءلة لم تتمّ إلى حدّ الآن.

إضافة إلى كون هناك بعض الظواهر الصوتية التي لن يكون لها تمثيل في المجتمع التونسي، كذلك من يخشى أن تتم محاسبته. وبالتالي يجب أن نراعي المصلحة العامة التي تقتضي عدم الإرباك والتشويش على العملية الإنتخابية، ويجب أن نقبل بحكم الشعب التونسي، أيًا كان توجهه، سواء اتجه نحو اليسار أو نحو اليمين، ويجب أن نعطي هذا الشعب الثقة التي يستحق، فهو من قام بهذه الثورة من دون إذن من أحد، ومن دون وصاية من أي طرف من الأطراف السائدة اليوم في المجتمع التونسي".