خصوصية التجربة الصوفية وعلاقتها بالتيار السلفي في المغرب
- التفاصيل
- المجموعة: إصدارات
- نشر بتاريخ: الإثنين، 30 تشرين2/نوفمبر -0001 00:00
- كتب بواسطة: مدارك
وبعد أن تطرق الكتاب، الذي صدر خلال العام الجاري عن دار رؤية للنشر والتوزيع في 320 صفحة، إلى الصلة بين الفقيه والصوفي، وأيضا العلاقة بين بعض النظريات الشيعية والصوفية، استفاض الكتاب في ذكر ما تميز به أهل المغرب من الاهتمام بالجانب العملي والاجتماعي والسياسي والأخلاقي، على حساب الخوض في المباحث النظرية والطروحات الميتافيزيقية، وهو بعيد نسبيا عن التطاحنات الفكرية والخلافات المذهبية التي وجدت في بيئة المشرق..
وتتوزع مشاغل كتاب " خصوصية التجربة الصوفية في المغرب: مفاهيم وتجليات " على عشرة فصول، عالجت مسائل عديدة من ضمنها: " الصريح والمضمر في الخطاب الصوفي"، و "انتقال المفاهيم من السياسة إلى التصوف"، و "التصوف والمجتمع بالمغرب"، و "الفكر السلفي والتصوف الطرقي بالمغرب: قطيعة أم اتصال "..
بين الصوفي والفقيه
وسلط الفصل الأول من الكتاب الضوء على نقط الشد والجذب بين الفقيه والصوفي، حيث إن المتصوف في الإسلام مثل بوضوح طرفا جديدا متميزا، دخل مبكرا إلى مسرح الحياة الفكرية والمجتمعية، وصار خلافا لرجل السياسة، يزاحم الفقيه في داره ويشاركه، بل ينازع جوهر سلطته المعرفية.
واستطرد الدكتور عبد المجيد الصغير بأن الضرورة العملية دعت إلى أن يعلو شأن الفقه من بين سائر العلوم الأخرى، فيتصدر الفقهاء للفتوى، الشيء الذي أضفى على الفقه، وبالتبعية على علم الكلام، صبغة رسمية وطابعا جماعيا، خاصة وقد كان العلمان المنوه بهما أكثر اهتماما برد الفروع إلى الأصول، التي هي جماعية وشرعية بطبيعتها.
ولعل هذا، يضيف الصغير، هو الذي سيحمل الفقه على أن ينازع كلا من التصوف والفلسفة الشرعية التي يدعيانها، خاصة وقد تميز هذان الأخيران ـ في الظاهر على الأقل ـ بطابعهما الذاتي ونزعتهما الفردية؛ غير أن تاريخ الفكر في الإسلام يقدم أكثر من مثال على الصعوبات التي اعترضت الفقيه في محاولاته المستمرة لضرب حصار على الفكر الصوفي والحد من انتشاره بين مختلف الأوساط، حتى منها الوسط الفقهي نفسه، وذلك مقابل النجاح الملموس الذي حققه في حصار الفكر الفلسفي والحد من انتشاره.
وعزا المؤلف عدم قدرة الفقيه على محاصرة انتشار الفكر الصوفي والحد من نفوذه وسلطته الجديدة، إلى اتجاه هذا الأخير منذ البداية ـ عكس ما فعله الفلاسفة ـ إلى أصل السلطة في الإسلام يستنطقه ويؤوله ويوظفه، كما يُعزى ذلك إلى قدرته على التكيف مع البيئة الإسلامية، مردفا أن هذا ما مكنه من التغلغل في أعماق الحياة الشعبية، بل وأن يأخذ أحيانا كثيرة زمام المبادرة والتأثير من يد الفقيه والمتكلم، إن لم نقل من يد السياسي أيضا في بعض الأحيان.
ويتابع الباحث المغربي: لهذا السبب، سبب الشعبية، لم يستطع الفقهاء رغم نفوذهم الطبيعي في مجتمع الإسلام، الوقوف في وجه التصوف والحد من انتشاره، مشيرا إلى أن تاريخ الإسلام يشهد كيف انقلبت الكفة في العصور المتأخرة، حيث أصبح الفقيه يحرص أن ينتسب للفكر الصوفي كمظلة يستظل بها، ويعترف بشمول فكرها ونفاذ سلطتها.
انتقال المفاهيم
وفي الفصل الذي عالج فيه المؤلف ما سماه المفاهيم الرحالة، أكد أن انتشار وانتقال النظريات والمفاهيم والأفكار العامة داخل العلوم الإنسانية، وعبر مجالاتها المتنوعة والمتداخلة، يملك حضورا يجعل من محاولة إثباته والتدليل على دوره من باب توضيح الواضح.
ويشرح الصغير أن العلاقة بين بعض النظريات الشيعية والصوفية تمثل نموذجا ممتازا لانتقال الأفكار والمفاهيم بين مجالين فكريين متباينين في الظاهر؛ ففي الوقت الذي يعلن فيه الصوفية ميلهم إلى الزهد واعتزالهم شؤون الناس اليومية، خاصة ما كان منها عاملا على الصراع والفرقة، نرى الفكر الشيعي دائم الاستحضار لنشأته المأساوية ومعانقته لمحن الزمان ومواجهته لأرباب السلطة، مرددا دوما مطالبه السياسية..
ويستطرد المؤلف أنه بالرغم من هذا التباين في طبيعة التكوين بين المجالين المتقابلين، فإن ظروفا عدة قد جعلت الفكر الصوفي يتبنى العديد من الأفكار والمفاهيم ذات الأصول الشيعية، موظفا إياها في مجاله الخاص، وممارسا عليها أنواعا من القلب لدلالاتها الأصلية.
وسرد المؤلف بعضا من هذه المفاهيم الصوفية ذات البُعد الشيعي ذي الأصل السياسي، ومنها مفهوم الأوتاد، ومعناه ـ حسب العقيدة الصوفية ـ الرجال الأربعة الذين على منازل الجهات الأربع من العالم، وبهم يحفظ الله تعالى تلك الجهات لكونهم محال نظره تعالى، مضيفا أن الحركة الشيعية أولت أهمية كبرى لتغطية أرجاء العالم الإسلامي بالدعاة، فيصير من الأهمية في تلك الحركة وجود دعاة يغطون أنحاء وأركان العالم الإسلامي المعروف آنذاك.
وبحسب الكتاب، تبدو عملية القلب للمفاهيم الشيعية داخل المجال الصوفي بشكل أوضح في مفهوم النقباء، وهم في الأصل الدعاة الذين يحتلون منزلة هامة في النظام الهرمي الشيعي والإسماعيلي خاصة، من حيث إنه توكل إليهم مهام الاتصال بجمهور الناس وكسب الأتباع مع حفظ أسرار الدعوة. أما في المجال الصوفي ـ بفضل نشاط الاستعارة لديه ـ فإن مفهوم النقباء لا يعدو أن يكون نقلا لهذه المعاني نفسها بعد إضفاء بُعد ميتافيزيقي ذوقي عليها.
وهناك مفهوم أساسي في التجربة الصوفية، وهو مفهوم القطب، الذي نجده في بُعده الصوفي حاملا للمعاني نفسها المعقولة في حق الإمام الذي نعلم مركزيته في الهرم الشيعي، فهو الواحد وهو المعصوم، وهو المنقذ أو الغوث بالمصطلح الصوفي، وهو أيضا الذي يختل بفقدانه نظام العالم.
وخلص الصغير إلى أن الوضع السياسي والاجتماعي المتمثل في افتقاد النموذج الأخلاقي والسياسي على المستوى الواقعي، وهو الوضع الذي ولد موقف الرفض لأنظمة الواقع، كما ولد بالمقابل مطاردة سياسية ومتابعة فكرية، وهو الوضع الذي كان على ما يبدو قاسما مشتركا بين الشيعة ورجال التصوف، مما ساعد في غالب الظن على سهولة تسرب تلك المفاهيم والأفكار شيعية الأصل وانتقالها إلى الوسط الصوفي، خاصة بعد أن رأوا قواسم مشتركة أخرى تجمع الاتجاهين، وتتمثل في مسلك الزهد بين الشيعة، وتمسكهم بآل البيت، وادعاؤهم الاتصال المباشر بالعلم النبوي، وكلها دعاوى يشاركهم القول بها مختلف رجال التصوف..
الحالة الصوفية في المغرب
وبعد أن عزا الدكتور عبد المجيد الصغير استمرار الفكر الصوفي إلى تكيفه مع البيئة الإسلامية، وتغلغله في أعماق الحياة الشعبية، عرج إلى الحديث عن التصوف الطرقي في المغرب باعتباره نموذجا متميزا في هذا المجال، حتى صار ذلك التصوف المناخ الذي يتنفسه الجميع، والمظلة التي يستظل بها الخاصة والعامة، على حد تعبير الباحث المغربي.
ويضيف الصغير: رغم هذا التأثير والحضور للفكر الصوفي والطرقي عبر تاريخ المغرب، فإن من المستغرب لاحقا قلة الاهتمام بتأريخ ذلك الفكر وعدم الاكتراث بتحليل خطابه داخل الأوساط الأكاديمية، وبين الباحثين المغاربة.
وأفاد المؤلف بأن المغرب قد صار منذ وقت مبكر ملجأ للعديد من الفرق الكلامية السياسية مثل الخوارج والمعتزلة، لكن بُعده الجغرافي عن المشرق قد مكنه رغم ذلك من أن يبقى بعيدا عن الخوض في الخلافات المذهبية، وتطغى عليه من ثمة النزعة العملية، بما تعنيه من عزوف عن الخوض في المشكلات النظرية، وإعطاء الأولوية للتنظيمات العملية والإجراءات التشريعية.
وينسب المؤلف هذا الوضع إلى سيادة المذهب الفقهي المالكي في المغرب، بجانب تصوف الجنيد السني والكلام الأشعري التوفيقي، سببا ونتيجة في آن واحد لتلك النزعة العملية الطاغية على الإنتاج الفكري المغربي.
بعد ذلك، تطرق الباحث إلى عامل التركيبة القبلية المتجذرة في المجتمع المغربي، حيث إن الدولة المغربية ظلت دوما رمزا لذلك التوازن المطلوب بين الساكنة القبلية، ولم تكن مهمتها هذه تقتضي منها، خاصة على مستوى المهام العسكرية والاقتصادية والتعليمية والصحية، أن تكون وحدها صاحبة القرار في ذلك، بل كثيرا ما كانت الجماعة في جهتها الجغرافية مسؤولة مباشرة عن تدبير شؤونها الاجتماعية والاقتصادية..
ومن هنا، يخلص الصغير، اكتسبت التجربة الصوفية في المغرب أهميتها كجزء من التركيبة الاجتماعية، ثم كمؤسسة في شكل زاوية أو طريقة يُلجأ إليها تفاديا لكل اختلاف
قبلي، وحسما لكل صراع فئوي يخص تدبير شأن من شؤون الجماعة، خاصة في البادية المغربية.
الفكر السلفي والتصوف الطرقي
وفي الفصل الموالي، تطرق المؤلف إلى العلاقة بين الفكر السلفي والتصوف الطرقي في المغرب وما بينهما من قطيعة أو اتصال، من خلال مواقف وفكر الشخصية التاريخية الراحل محمد المختار السوسي، ذلك لأنه كان يتقمص شخصيتين متضادتين ظاهريا، ظل مع ذلك وفيا لهما طيلة حياته، ألا وهما: شخصية المفكر السلفي وشخصية المريد الصوفي الطرقي.
واستعرض الكتاب ما عرفه محمد المختار السوسي من تجربتين، كلاهما يجوز نعتهما بالأزمة أو الإشكالية، وهما تجربة اصطدامه كصوفي ـ طرقي أصيل بالسلفية الجديدة التي تفننت في اختراع المعاول لاجتثاث الطرقية من المغرب، ثم اصطدامه بعد ذلك كسلفي بالفكر الغربي والحضارة الغربية.
وأبدى الباحث المتخصص إعجابه باحتفاظ السوسي في آخر كل تجربة أو اصطدام بفكر متفتح بفرص الحوار، مراعيا في ذلك ضرورة التطور وسنة التغير، رغم ما قد يجره هذا التغير من شعور بالأسى والرغبة في الانطواء وضعف القدرة على التأثير في الأحداث المستجدة، خاصة بعد تجربة سلفية غنية بدا أنها مع ذلك كانت حبلى بنقائض لم تكن متوقعة.
وانتقل المؤلف إلى الحديث عن المفكر المغربي الراحل علال الفاسي الذي كان واعيا بأن التأريخ للتصوف المغربي في حاجة إلى دراسات متعددة وجهود متضافرة، فأفرد للتجربة الصوفية كتابا معروفا حاول فيه أن يبرز الخصائص والملامح الكبرى التي اتسمت بها التجربة الصوفية في المغرب، بعد أن بين موقفه الصريح من طبيعة مقاصد التصوف الإسلامي ذاته، كجزء مكون للثقافة الإسلامية وكبُعد من أبعاد الفلسفة القرآنية.
وخلص الدكتور عبد المجيد الصغير إلى أن طبيعة وبنية الفكر الصوفي لا تتعارض مع مسلمات الفكر السلفي، فمفهوم السلف يلعب هو الآخر دورا إجرائيا مهما في الفكر الصوفي، كما أن الرغبة والحرص على التوفيق بين الشريعة والحقيقة شيء ثابت في ذلك الفكر.
أما على المستوى الواقعي والتطور التاريخي، يلاحظ أن حدة تلك المواجهة السلفية ضد الفكر الطرقي بدأت تخف لدى الفكر السلفي شيئا فشيئا كلما ابتعدنا زمنيا عن بداية عصر النهضة الحديثة، وقد ولد ذلك الجدال بين الفريقين محاولات توفيقية لدى الجانبين، ولم تكن تلك المحاولات تخلو من الصراع أيضا.
حسن الأشرف - إسلام أون لاين